الحكم العثماني بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.
لقد سر السلطان سليم الأول سرورًا عظيمًا بامتداد سيادته إلى الحرمين الشريفين وبلاد الحجاز لما في ذلك من شرف ومكانة دينية أصبحت الدولة العثمانية تتمتع بها في نظر المسلمين، ولذلك فوض للشريف بركات جميع السلطات في الحجاز وجعله المتصرف في أمر مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنعم على القاضي يحيى بن البرديني بمشيخة الحرم النبوي
كما أغدق السلطان سليم وابنه وخليفته السلطان سليمان القانوني 926 - 974هـ / 1520 - 1566م الأموال والغلال والصدقات والهبات على سكان الحرمين من الأشراف والعلماء والمجاورين وأهل الوظائف والفقراء، فبالإضافة إلى الأموال والصدقات وريع الأوقاف التي كانت ترسل من مصر والشام في عهد المماليك التي أبقاها السلاطين العثمانيون، فقد أضاف أولئك السلاطين أموالاً وغلالاً وصدقات وأوقافًا أخرى لكي ترسل سنويًا إلى الحرمين من مصر بصحبة المحمل المصري ومن إستانبول بصحبة محمل رومي (عثماني) استحدثوه
أقر السلاطين العثمانيون أمراء مكة المكرمة على ما كانوا عليه من ولاية الحرمين الشريفين والأقطار الحجازية منذ أواخر عهد الدولة المملوكية؛ ففي عــام 961هـ / 1554م طلب أمــير مكة المكرمة، الشريف أبونمي؛ محمد بن بركات من السلطان سليمان القانوني تفويض الأمر (حكم الحجاز) إلى ولده الثاني الشريف حسن بن أبي نمي، "فتقلد - بعد أن أجيب إلى مراده - حماية الحرمين الشريفين وجدة المعمورة وينبع وخيبر وحلي وجميع ما شمله اسم الأقطار الحجازية وذلك من خيبر إلى أطراف حلي وأعمال جازان طولاً، ومن أعمال الينبع المبارك إلى حجاز ثقيف وما تصل به من أرض نجد عرضًا" . وكان نفوذ أمراء مكة المكرمة يصل إلى العلا ومدائن صالح في شمال الحجاز، فقد كان السلاطين العثمانيون يطلبون منهم استقبال قوافل الحج هناك أو إرسال ممثلين عنهم لذلك الغرض، إذ تبدأ حماية أمراء مكة المكرمة والحجاز لتلك القوافل من ذلك الموضع . وبذلك بقي الوضع السياسي والإداري في المدينة المنورة كما كان في السابق مرتبطًا بإمارة مكة المكرمة، إلا أن العثمانيين أرادوا تقوية سلطتهم في المدينة من ناحية، وإضعاف نفوذ أمير مكة المكرمة فيها من ناحية أخرى، فوضعوا نظامًا للحكم في المدينة المنورة قسموا بموجبه السلطات بين عدة جهات، وذلك حسب ما يقتضيه نظام الحكم العثماني في الولايات التابعة للدولة، وقد قسمت السلطات في المدينة بين خمسة من كبار المسؤولين فيها هم: شيخ الحرم النبوي، وقاضي الشرع، وقائد الحامية العسكرية، ونواب أمير مكة المكرمة، وأمير المدينة المنورة الحسيني، وسيأتي الحديث عن كل واحد من هؤلاء المسؤولين والمهام الموكلة إليه.
أرادت الدولة العثمانية حماية المدينة المنورة من هجمات القبائل مثل عنـزة والظفير التي تعودت على مهاجمة أطراف المدينة بين فترة وأخرى، فلما تزايدت تلك الهجمات طلب سكان المدينة والمسؤولون العثمانيون فيها من السلطان سليمان القانوني بناء سور جديد يحيط بالمدينة بدلاً من السور القديم الذي تهدمت بعض جوانبه، وقد كلف السلطان سليمان والي مصر بمهمة بناء السور والإنفاق عليه من خزينة مصر، وبدأ والي مصر في إرسال المواد اللازمة للبناء والمهندسين والبنائين والعمال الذين سيقومون بالعمل مــنذ عــام 938هـ / 1531م . وقد اكــتمل بناء السور والقلعة الملحقة به في أواخر عـام 946هـ / 1539م. وقد أورد الرحـالـة العثماني الشهير، أولياء جلبي الذي زار المـدينــة في عام 1082هـ / 1671م وصفًا مفصلاً للسور والقلعة، فقد ذكر أنه يوجد في القلعة ثمانون مدفعًا وسجن ومهتر وجنود محاصرة ومحافظ، وأن سمك جدران السور يصل إلى ستة أذرع وارتفاعها عشرون ذراعًا، ويوجد داخل القلعة مخزن للذخيرة وما بين سبعين إلى ثمانين منـزلاً صغيرًا ومسجدها بديع الصنع وهو من مآثر السلطان سليمان وتشييده، وتقام الجمعة والخطبة في الجامع الكبير (المسجد النبوي) فقط
لقد وفر هذا السور القوي والقلعة الملحقة به التي ظلت أقوى التحصينات في غربي جزيرة العرب لفترة طويلة حماية فعالة لسكان المدينة خلال ما تبقى من القرن العاشر الهجري وبداية القرن التالي . وإذا ما أخذنا في الاعتبار الأموال والصدقات والهبات والغلال والحبوب التي أمر السلطان القانوني وخلفاؤه بإرسالها إلى سكان الحرمين الشريفين، والفرق العسكرية التي أصبحت ترابط في القلعة، فإن سكان المدينة لم يعودوا في حاجة إلى من حولهم، فقد توفر لهم الأمن والغذاء الذي صار يأتي من الخارج.
طلب الشريف أبانمي من السلطان العثماني في عام 961هـ / 1554م أن يشرك معه ابنه الحسن في إمارة مكة المكرمة والحجاز ووافق السلطان على ذلك ، فعيّن الحسن ابنه محمدًا حاكمًا في المدينة المنورة، وفي عام 963هـ / 1556م امتنع أمير المدينة المنورة مانع الحسيني عن دفع المخصصات والإتاوات التي كان أسلافه يدفعونها لزعماء عشيرته بني حسين الذين خرجوا من المدينة ولشيوخ قبائل عنـزة والظفير ، وذلك على ما يبدو بسبب قلة ما بيده من المال من ناحية، وقوة ثقته بحماية الدولة العثمانية وأمير مكة المكرمة والحجاز للمدينة وسكانها من ناحية أخرى، وفي أواخر شهر ذي القعدة من ذلك العام اعترضت جماعات من بني حسين وعنـزة والظفير ركب الحج المدني في الفريش وهو في طريقه إلى مكة المكرمة، وكان في ذلك الركب عبد الرحمن أفندي قاضي المدينة العثماني والأمير محمد بن الحسن الجناب العالي (نائب أمير مكة المكرمة في المدينة) وشيخ الحرم النبوي الشريف وعدد من أعيان المدينة وبعض السادة من بني حسين ، وكان ضمن العرب المهاجمين للركب عشائر من بني حسين مثل آل نعير وآل جماز، بقيادة الأمير منصور بن محمد آل نعير أمير المدينة وابن أميرها سابقًا وأولاد الأمير جماز الذي سبق أن تولى إمارة المدينة ، وبعد مناوشات بين المهاجمين والركب المدني قتل فيها عدد من الجانبين وسلبت بعض الأموال، توصل قاضي المدينة وشيخ الحرم النبوي مع المهاجمين إلى اتفاق تعهدا بموجبه بدفع المخصصات والعوائد التي كانت تدفع لتلك العشائر في السابق . ويتضح جليًا من هذه الحادثة أن المهاجمين لركب الحج المدني وبخاصة زعماء بني حسين كانوا يحاولون استعادة عوائدهم ومخصصاتهم وامتيازاتهم القديمة التي حرمتهم منها السلطات العثمانية ونواب أمير مكة المكرمة والحجاز في المدينة.
شكا زعماء ركب الحاج المدني ما وقع لهم في الفريش للشريف حسن بن أبي نمي بعد وصولهم إلى مكة المكرمة وطلبوا حمايته، وبعد انقضاء مناسك الحج أرسل الشريف حسن بصحبة حجاج المدينة جماعة من الجند لحمايتهم بقيادة أحد الأشراف يدعى عجل بن عرار لإيصالهم إلى المدينة بسلام والبقاء هناك لحفظها
وفي بداية العام التالي عزم الشريف حسن على معاقبة الذين اعترضوا حجاج المدينة، فجمع أتباعه من الأشراف والعرب وعسكر صاحب جدة وتوجه شرقًا، فلما علم بنو حسين وعنـزة والظفير بخروجه إليهم انحازوا إلى جبل شمر، فتبعهم إلى هناك وقبض على بعض زعمائهم وعاد بهم إلى المدينة المنورة أسرى مكبلين بالسلاسل، وكان من ضمنهم بعض الأشراف من بني حسين .
وكانت الدولة العثمانية قد أرادت إضعاف سلطة أمير مكة المكرمة والحجاز في المدينة المنورة وتقوية سلطتها هناك، فوضعت نظامًا للحكم في المدينة قسمت السلطة بموجبه بين عدة جهات هي:
شيخ الحرم النبوي الشريف
يمثل شيخ الحرم السلطة العليا في المدينة التي ترجع إليها جميع السلطات الأخرى، وهي السلطة التي لها حق الاتصال بالعاصمة العثمانية في إستانبول، وكان اختيار شيخ الحرم النبوي يتم من بين العلماء الذين تمرسوا في الإفتاء والقضاء أو في مشيخة الإسلام في العاصمة، كما يجب أن يكون عثمانيًا متقدمًا في السن ويحسن الحديث باللغة العربية، ويتم تعيين شيخ الحرم النبوي لمدة سنة واحدة ثم يستبدل بغيره، وهو يتقاضى راتبًا عاليًا مساويًا لراتب الصدر الأعظم ويساعده عدد كبير من الموظفين والخدم، وقد خصص لشيخ الحرم النبوي في المدينة مقر يسمى (الدار الكبرى) لإقامته وممارسة العمل مع موظفيه، (والدار الصغرى) لإقامة أسرته وخدمه .
ظلت سلطة شيخ الحرم النبوي قوية ونافذة خلال القرن الأول من الحكم العثماني في الحجاز، إلا أن سلطته ونفوذه أخذا في التراجع منذ أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) إذ صار يرسل لشغل هذه الوظيفة بعض كبار أغوات (خصيان) قصر السلطان العثماني على سبيل النفي والإبعاد، وعلى الرغم من علو رتبهم الوظيفية إلا أن كون هؤلاء الأغوات من الخصيان وعدم حماس بعضهم للقيام بمهام أعمالهم الجديدة وعدم تزويدهم بقوة عسكرية تساعدهم في تنفيذ أوامرهم قد أسهم في إضعاف سلطتهم في المدينة وقلل من قدرتهم على فرض نفوذهم على رؤساء السلطات الأخرى في المدينة وبخاصة قاضي الشرع وقائد الحامية العسكرية .
قاضي الشرع
كان هذا القاضي يرسل من العاصمة العثمانية ويتم اختياره من بين القضاة المتمرسين من العثمانيين ومن المنتمين إلى المذهب الحنفي - مذهب الدولة - ويعين القاضي لمدة سنة واحدة ثم يستبدل بغيره، وهو يرأس المحكمة الكبرى في المدينة وهي المحكمة الحنفية، كما يترأس قضاة المذاهب الأخرى في المدينة، وكانت الدولة العثمانية تولي اهتمامًا خاصًا بقضاة الحرمين الشريفين ويصدر السلطان مرسومًا سنويًا وخلعًا ونياشين لهؤلاء القضاة وتدفع لهم رواتب ومخصصات جزيلة . وكان من مهام قاضي الشرع في المدينة المنورة مراقبة أمرائها والقوى السياسية والعسكرية الأخرى فيها وكتابة التقارير عنها، ولما كان قضاء مكة المكرمة والمدينة غير مغرٍ لكبار القضاة، فقد صدرت أوامر سلطانية في أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) تقضي بأن يكون القضاة الذين أنهوا الخدمة في مكة المكرمة أو المدينة المنورة مؤهلين لتولي قضاء العاصمة إستانبول أو الحصول على درجة مساوية لدرجة قضاة العاصمة
وفي أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) لم يكن قاضي الشرع يحضر المجلس الذي كان يعقده شيخ الحرم النبوي في منـزله ويحضره جميع المسؤولين الكبار في المدينة، ربما لعدم قناعته بخضوع السلطة القضائية للسلطة الإدارية أو عدم رغبته في الخضوع لشيخ الحرم
قائد الحامية العسكرية (محافظ المدينة المنورة)
قررت الدولة العثمانية إقامة حامية كبيرة في المدينة لحمايتها من هجمات القبائل المحيطة بها والمساعدة في حماية قوافل الحج بعد دخولها إلى الحجاز لأن المدينة المنورة تقع في وسط البادية وتحيط بها منازل القبائل التي لم يهتم العثمانيون بها ولم يكن لهم نفوذ عليها، ولكي تكون المدينة هي مركز القوة العسكرية العثمانية في الحجاز . وقد شغل قائد هذه الحامية العسكرية فيما بعد منصب (محافظ المدينة المنورة) . وخلال حكم السلطان سليمان القانوني شيدت الدولة لهذه الحامية قلعة كبيرة هي قلعة الباب الشامي، وكان العسكر العثماني في المدينة يتكون من أربع أوجاقات (فرق) هي: وجاق القلعة، وجاق السباهية الفرسان، وجاق النوبتجية المشاة، ووجاق الانكشارية . ويقوم قسم من هؤلاء الجنود بمهمة الشرطة وحفظ الأمن داخل المدينة في حين تقوم فرق أخرى بالمهمات الأمنية والدفاعية خارج البلدة.
ويظهر أن أمير مكة المكرمة والحجاز محمد أبانمي وابنه الحسن قد وجدا في هذه القوة العسكرية الكبيرة في المدينة عقبة في طريق فرض سلطتهما في البلدة ومنافسًا لهما في الحجاز، فأرسلا في محرم عام 965هـ / سبتمبر 1557م مبعوثًا إلى إستانبول يدعى قطب الدين المكي بهدف عزل قائد حامية المدينة المنورة المدعو بيري بسبب خلافات حدثت بينه وبين الشريفين، إلا أن قطب الدين المكي لم ينجح في مهمته لأن السلطان سليمان القانوني لم ير إضعاف نفوذ الدولة العثمانية في الحجاز وتقوية سلطة أمير مكة المكرمة في ذلك الإقليم المهم، فرفض عزل قائد حامية المدينة وأوضح للمبعوث أنه سيأمر بإجراء تحقيق في الموضوع وأنه سيأمر باستبدال القائد فقط إذا ما تبين ذلك ضروريًا
وفي عام 1136هـ / 1724م بدأت الدولة العثمانية في تعيين ولاة في إقليم الحجاز للحد من سلطة أمراء وأشراف مكة المكرمة وكان هؤلاء الولاة يحملون رتبة وزير، وقد أسندت مهام هذا المنصب إلى محافظ المدينة المنورة حيث كان يمارس مهام منصب الوالي من مقر إقامته في المدينة حتى عام 1215هـ / 1800م حين تقرر نقل مقر إقامة الوالي إلى جدة . وخلال القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) أصبح محافظ المدينة المنورة بيده أقوى السلطات، بسبب اعتماده على قوة الفرق العسكرية المقامة في المدينة من ناحية وضعف سلطة شيخ الحرم النبوي من ناحية أخرى.
نواب أمير مكة المكرمة في المدينة المنورة
كان أمراء مكة المكرمة بحكم ولايتهم على الحرمين الشريفين منذ عهد المماليك يرسلون نوابًا عنهم إلى المدينة المنورة يسمى أحدهم وزيرًا ويسمى الثاني حاكمًا لتمثيل وتأكيد نفوذهم في البلدة، وقد استمر هذا التقليد بعد استيلاء العثمانيين على الحجاز وتفويضهم ولاية الحرمين الشريفين لأمراء مكة المكرمة، وكان أمير مكة المكرمة يختار هؤلاء الوزراء والحكام في أغلب الأحيان من بين أقاربه، وكانت سلطات هؤلاء الموظفين تشمل: تمثيل أمير مكة المكرمة في المدينة، وتبليغ أوامره فيها، وجمع الضرائب التي كانت تجبى باسمه في المدينة وإرسالها إليه، والمساهمة في توزيع الصدقات والأموال المرسلة إلى المدينة عن طريق أمير مكة المكرمة .
أمير المدينة المنورة الحسيني
حكم بنو الحسين المدينة المنورة منذ منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وقد أحرز بنو مهنا منهم سلطة قوية في المدينة على الرغم من امتداد نفوذ أمراء مكة المكرمة إليها في فترات قصيرة وامتداد سيادة السلاطين الأيوبيين والمماليك إليها خلال القرون التالية، وقد فقد الأمراء الحسينيون جزءًا كبيرًا من سلطتهم حينما فوض سلاطين المماليك خلال القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) ولاية الحرمين والأقطار الحجازية لأمراء مكة المكرمة ما دفع أحدهم في عام 901هـ / 1495م وهو الأمير حسن بن زبيري إلى أخذ الأموال والذخائر المودعة في الحجرة النبوية للإنفاق منها على نفسه ورجاله وكبار عشيرته ثم غادر المدينة إلى البادية مبررًا ما أقدم عليه بحاجته لذلك المال الذي نُذر لجده وأن أمير مكة المكرمة لم يترك له شيئًا من دخل الإمارة وقاسمه في الميراث
لقد أصبح أمير المدينة الحسيني تابعًا لأمير مكة المكرمة الذي غالبًا ما كان يختاره من بين الموالين له من بني مهنا . وصار أمير مكة المكرمة يعين نوابًا عنه (وزيرًا وحاكمًا) من أقاربه وخدمه يشاركون أمير المدينة في إدارة الأمور فيها، ويتحكمون في الموارد المالية المحلية وتلك التي ترسل من الخارج إلى المدينة، وقد نتج عن ذلك شح الموارد المتاحة لأمير المدينة، وبالتالي ضعف سلطته وهيبته في داخل المدينة وبين القبائل المحيطة بها وانكماش نفوذه عن القرى والبلدان التي كانت تابعة له خصوصًا في شمال الحجاز، كما نتج عن ذلك خروج أعداد كبيرة من بني الحسين، عشيرة الأمير، إلى القرى والبوادي المجاورة بسبب ضعف مواردهم . وخلال القرن العاشر الهجري فقد أولئك الأمراء جزءًا أكبر من سلطاتهم وامتيازاتهم لصالح السلطات التي أقامتها الدولة العثمانية في المدينة إلى جانب سلطة نواب أمير مكة المكرمة وبخاصة شيخ الحرم النبوي ومحافظ المدينة وقائد حاميتها العسكرية، وقد نتج من ذلك اضمحلال سلطة الأمراء الحسينيين وضعف مكانتهم وفقر ثقيل طال عشيرتهم.
ازداد ضعف سلطة الأمراء الحسينيين وتدني مكانتهم في المدينة خلال القرن الحادي عشر الهجري، وأصبحت سلطة أمير المدينة صورية؛ على الرغم من ذكر اسمه على منبر المسجد النبوي بعد اسم السلطان العثماني واسم أمير مكة المكرمة إلا أنه لم يكن له من ولاية المدينة وإمارتها إلا الاسم . وقد اقتصرت سلطة الأمير الحسيني - على ما يبدو - خلال هذه الفترة على النظر في شؤون عشيرته والعلاقة مع القبائل المحيطة بالمدينة . ومع نهاية القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) غابت الإشارة إلى مشاركة الأمراء الحسينيين في حوادث المدينة كما غاب ذكرهم في المصادر التاريخية ما يشير إلى ذبول إمارتهم مع نهاية ذلك القرن
لقد نجح العثمانيون في إضعاف سلطة أمير مكة المكرمة والأقطار الحجازية وسلطة الأمير الحسيني في المدينة بإقامة سلطات سياسية وعسكرية ودينية تشاركهما في إدارة شؤونها، لكن الحكم العثماني هناك لم يسلم من نقطة الضعف التي كانت تعاني منها الولايات البعيدة عن العاصمة، وهي توزيع السلطات بين قوى مختلفة في الولاية وعدم إعطاء أي منها صلاحيات كبيرة خوفًا من أن تستبد تلك القوة بالولاية أو تنفصل بها عن الدولة.
لقد أنشأ العثمانيون ثلاث سلطات جديدة في المدينة إضافة إلى سلطاتها القديمة هي: سلطات شيخ الحرم النبوي، وسلطات محافظ المدينة وقائد حاميتها العسكرية، وسلطات قاضي الشرع. وحسب ما يقتضيه النظام العثماني فإن أيًا من هذه القوى ليس له سلطة مطلقة على القوى الأخرى، كما أن تعيين أصحاب هذه السلطات يصدر عن العاصمة العثمانية ولمدة عام واحد فقط. وقد أسهم عدم وجود مسؤول واحد في المدينة ترجع إليه جميع السلطات الأخرى ويملك صلاحية اتخاذ القرار بالإضافة إلى قصر فترة ولاية أولئك المسؤولين وتقدمهم في السن وشعور بعضهم أن تعيينه في المدينة المنورة إنما هو نوع من الإبعاد أو ما يشبه التقاعد، وعدم معرفة بعضهم اللغة العربية أسهم كل ذلك في عدم قدرتهم على ضبط الأمور الإدارية والأمنية في المدينة
كان شيخ الحرم النبوي يعقد مجلسًا أسبوعيًا بعد صلاة الجمعة يدعى (مجلس الإدارة) في مقر إقامته في (الدار الكبرى) لمناقشة المشكلات التي تحدث خلال الأسبوع في المدينة والتوصل إلى حلول لها، أو التداول في مشروعات مطروحة لصالح المدينة المنورة أو تبليغ وتنفيذ أوامر سلطانية واردة، وكان يحضر هذا المجلس محافظ المدينة وقائد حاميتها وقاضي الشرع وقائد الشرطة ومفتو المذاهب الأربعة وعدد من أعيان أهل المدينة .
وفي أواخر القرن الحادي عشر حينما أصبح شيخ الحرم النبوي يتم اختياره من بين أغوات القصر السلطاني وبالتالي ضعفت مكانته وهيبته، تخلى قاضي الشرع عن حضور مجلس الإدارة الذي يعقده شيخ الحرم في مقر إقامته . والواقع أن العياشي الذي زار المدينة في عام 1073هـ / 1662 - 1663م ومكث فيها قرابة العام لم يستطع أن يتبين كيفية توزيع السلطات في المدينة أو طريقة ممارستها، فقال: "وعلى طول إقامتي في المدينة لم أدر كيفية تصرف الولاة فيها ولا من له التصرف التام بها... ولا أعلم هل لكل واحد من هؤلاء (الولاة) ولاية على قوم بالخصوص أو عمل من الأعمال؟ ولم يكشف لي أحد غرضًا في كيفية ذلك، ولم أبالغ في الفحص عنه"
وكان تركيز الدولة العثمانية منذ أن امتدت سلطتها إلى الحجاز على المدن والحواضر مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة وطرق الحج المؤدية إليهما لاحتوائهما على الحرمين الشريفين والأمكنة المقدسة ومثل جدة وينبع للاستفادة من الجبايات التي تفرض في ميناءيهما. أما القرى والبلدات والوديان والقبائل المحيطة بتلك المدن والحواضر فلم يعرها العثمانيون اهتمامًا وتركوا أمورها للزعماء المحليين تحت نفوذ أمير مكة المكرمة والحجاز، ربما لأن تلك القرى والوديان والقبائل لم تكن تدر من الموارد ما يستحق الاهتمام والجهد المبذول وربما تفاديًا للمشكلات التي يمكن أن تواجهها الدولة عندما تتدخل في شؤون تلك المناطق والقبائل، والواقع أن اهتمام شيخ الحرم النبوي - أبرز المسؤولين العثمانيين في المدينة - لم يتجاوز حرم المدينة النبوية.
ولقد سمح العثمانيون بالاضمحلال التدريجي لإمارة بني الحسين في المدينة المنورة وذلك حين لم يبق المسؤولون العثمانيون ونواب أمير مكة المكرمة للأمراء الحسينيين إلا السلطة الاسمية في المدينة، وبما أن سلطة هؤلاء المسؤولين لم تكن تتجاوز في الغالب حدود حرم المدينة، فقد انقطعت الصلة بين المدينة والقرى والمناطق والقبائل المحيطة بها، وهي الصلة التي كان يتولاها ويحافظ عليها أمراء المدينة القدماء من بني الحسين.
وفقد هؤلاء الأمراء عناصر القوة التي كانت تساعدهم على فرض نفوذهم على المناطق والقبائل المحيطة بالمدينة والمحافظة على الروابط والعلاقات بين مجتمع المدينة والمجتمعات التي كانت تعيش خارجها وحفظ التوازن بين تلك المجتمعات، وكان أهم تلك العناصر الموارد المالية والسلطة السياسية والإدارية والقوة العسكرية التي فقدها الأمراء الحسينيون لصالح العثمانيين، لقد حل العثمانيون مكان الأمراء الحسينيين في داخل المدينة، لكنهم أهملوا المناطق والقبائل المحيطة بها وبذلك وسعوا الفجوة بين مجتمع داخل المدينة والمجتمعات المحيطة بها.
اضطربت الأوضاع في مكة المكرمة والحجاز بعد وفاة الشريف حسن بن أبي نمي في عام 1010هـ / 1601م، فقد أخذ أبناؤه وأحفاده يتنافسون ويتحاربون على السلطة، وتداول الحكم في مكة المكرمة خلال الثلاثين سنة التي أعقبت وفاته ثلاثة عشر أميرًا، وقد تطلب الاضطراب والفوضى التي نتجت من صراع بني أبي نمي وأتباعهم على السلطة تدخل قادة الدولة العثمانية مثل ولاة اليمن وأمراء قوافل الحج لوضع حد لذلك الاضطراب والفوضى . وقد ضعفت سلطة أمراء مكة المكرمة والحجاز في المدينة المنورة نتيجة لانشغالهم بالصراع على الحكم فيما بينهم، كما زاد تدخل القادة العثمانيين في ذلك الصراع من عدم استقرار الأوضاع في مكة المكرمة وضعف سلطة أمراء الحجاز في المدينة المنورة. وفي شعبان من عام 1041هـ / مارس 1632م تمكن بعض العساكر المتمردين على والي اليمن (الجلالية) من الاستيلاء على مكة المكرمة وقتل أحد أمرائها وطرد الآخر وهو الشريف زيد بن محسن . أخذ الشريف زيد بن محسن يراسل والي مصر العثماني من المدينة المنورة ويطلب منه المساعدة ضد العسكر المتمردين والأمير الذي نصبوه في مكة المكرمة، فأرسل والي مصر ثلاثة آلاف وخمسمئة جندي يقودهم قادة برتبة سنجق وخلعة سلطانية. لبس الشريف زيد الخلعة السلطانية في المسجد النبوي الشريف واستقبل العسكر المصري في ينبع وسار بهم إلى مكة المكرمة وتمكن من استعادة الحكم فيها وملاحقة المتمردين إلى بلدة تربة والقضاء عليهم في محرم عام 1042هـ / أغسطس 1632م
طالت فترة إمارة الشريف زيد بن محسن لمكة المكرمة والحجاز، فبلغت خمسة وثلاثين عامًا 1042 - 1077هـ / 1632 - 1666م تمــكن خــلالـها من إعادة القوة لسلطة أمير الحجاز على مناطقه وقبائله بعد الضعف الذي أصابها خلال الثلاثين عامًا التي سبقت توليه الإمارة، قال العصامي عن ذلك: "واستقل.. الشريف زيد بالملك منفردًا في الأقطار الحجازية كافة... واستنـزل أرباب الحصون الشامخة، واستولى على القلاع الراسخة، وملك البلاد البعيدة المنازل" وكانت المدينة المنورة والقبائل والقرى المجاورة لها من أهم المناطق التي عمل الشريف زيد على تقوية نفوذه فيها، وكان من الحملات التي شنها الشريف زيد لإعادة سلطة أمير مكة المكرمة والحجاز على القبائل، حملة قام بها ضد قبيلة بني صبح إحدى قبائل حرب في الجبل المنسوب إليهم والواقع إلى الجنوب من بلدة بدر على بعد 160كم جنوب المدينة المنورة تقريبًا، وذلك في بداية عام 1043هـ / يوليو 1633م. وتذكر المصادر المكية أن الشريف اقتحم عليهم الجبل وحاربهم وانتصر عليهم، فصالحه أهل السهل بالسلاح والأموال فأخذها منهم ورجع إلى مكة . ويظهر أن دوافع الحملة هي إخضاع هذه القبيلة الممتنعة بحصانة ووعورة جبلها لسلطة أمير الحجاز وإجبارها على دفع الإتاوات المطلوبة.
تنبه العثمانيون لتنامي نفوذ الشريف زيد بن محسن في الحجاز، فأرادوا الحد من توسع ذلك النفوذ وبخاصة في المدينة المنورة التي تعوَّد الشريف على زيارتها من وقت إلى آخر، فأرسل السلطان مراد الرابع (1032 - 1049هـ / 1623 - 1640م) قبل وفاته بأشهر مملوكه المحظي لديه بشير آغا الطواشي وزوده بأوامر ومراسيم سلطانية تخوله التصرف بما يراه من عزل وتولية، وقد تخوف الشريف زيد ما يمكن أن يصدر عن بشير آغا بحقه، خصوصًا حينما سمع أن والي مصر استقبله خارج القاهرة وترجل عند لقائه وقبل ركبته ومشى وهو راكب، وقد فكر الشريف في الخروج من مكة المكرمة تفاديًا لمقابلته، وكان من حسن طالعه أن ورد الخبر حين وصول الطواشي إلى ينبع بوفاة سيده السلطان الذي منحه الأوامر والمراسيم التي تخوله العزل والتولية فبطلت سلطاته بوفاة سيده
في عام 1052هـ / 1642م رفع العثمانيون رتبة مصطفى آغا أمين جدة إلى سنجق (أمير لواء) لتمكينه من إضعاف سلطة أمير مكة المكرمة والحجاز، ويذكر السنجاري المتوفى عام 1125هـ / 1713م أنه أول سنجق تولاها (أي جدة)، وأنه لم يزل كذلك إلى سنة 1056هـ / 1646م حين وردت إليه مشيخة الحرم المكي مضافة إلى سنجقية جدة، فلما استفحل أمره شرع في التطرق إلى الأحكام بمكة المكرمة فنفرت نفس الشريف من ذلك . وفي العام نفسه عينت الدولة العثمانية بشير آغا الطواشي المتقدم ذكره شيخًا للحرم النبوي الشريف، ووصل إلى مكة المكرمة وأدى نسك الحج مع سنجق جدة وخرجا بعد الحج إلى بلدة الطائف للنـزهة والتشاور - على ما يبدو - في كيفية الحد من سلطات الشريف زيد في مكة المكرمة والمدينة المنورة . أدرك الشريف زيد أهداف وخطط المسؤولين العثمانيين ضده، فدبر مؤامرة لقتل السنجق وإخافة الطواشي وإجباره على مغادرة الحجاز
وصل الشريف زيد بن محسن المدينة المنورة زائرًا في اليوم الثامن من شعبان عام 1059هـ / أغسطس 1649م ونـزل بعسكره خارج السور، وفي اليوم التالي وثب رجل على زفر أفندي، قاضي الشرع العثماني في المدينة المنورة وقتله وهو في طريقه إلى المسجد النبوي لصلاة الفجر، فلما سمعت العساكر العثمانية في المدينة بمقتل القاضي وهروب القاتل اعتقدوا أن ذلك من تدبير الشريف زيد، فحشدوا قواتهم وأغلقوا أبواب سور المدينة ووجهوا المدافع تجاه معسكر الشريف وطالبوه بمغادرة المدينة المنورة، وقد حاول الشريف زيد إقناع رؤساء العسكر العثماني بأنه لا علم له بالحادثة ولا ضلع له فيها، وبعث إليهم كبار رجاله في ذلك واستدعى أولئك الرؤساء للتباحث في مقتل القاضي وتعهد بالتحقيق فيه والبحث عن الجاني، وأخذ يمسكهم واحدًا بعد الآخر ويحبسهم، وأرسل تسعة منهم إلى السجن في ينبع وظلوا هناك حتى وصل أمير الحج فشفع فيهم .
وقد أوضح الرحالة العياشي شكوك سكان المدينة المنورة وعسكرها حين قال:
"بيد أن في سنة تسع وخمسين وألف وهي أول سنة حججت فيها جاء إلى المدينة قاضٍ تركي من قبل القسطنطينية فأظهر فيها العدل غاية، وأقام الدين وضرب على أيدي كثير من ولاة المدينة، ومنعهم من كثير من الباطل والظلم الذي هم به متصفون، فثقلت وطأته عليهم واشتدت شكيمته حتى على السلطان الأمير زيد بنفسه، حال بينه وبين كثير من مراداته التي على خلاف الديانة. وكان السلطان زيد قد قدم في تلك السنة إلى المدينة وأقام بها مدة، فلم يزالوا يحتالون على القاضي حتى اغتيل ليلة من الليالي... فأظهر السلطان (زيد) التأسف على موته والتحسر، وأظهر التفتيش عن الضارب، وزعم أنه لا علم له به ولو علمه لنكل به وقتله. والخاص من الناس لم يصدقوه في ذلك، وعلموا أنه لا يقدر أحد على الجرأة على هذا الفعل العظيم إلا بإذنه، وأنه لا يخفى عليه فاعله لشدة حزمه وعظيم مكره وكثرة دهائه حتى أنه لا يكاد يخفى عليه سارق شملة بأرض الحجاز كلها فكيف يخفى عليه مثل هذا؟! " .
يظهر جليًا ما تقدم أن أمير مكة المكرمة والحجاز كان يعمل وفق سياسة مدروسة ومستمرة هدفها إضعاف السلطات العثمانية في المدينة المنورة منذ عام 1057هـ / 1647م عندما أرهب بشــير آغا الطواشي شيخ الحرم النبوي المعين بقتل زميله مصطفى بك سنجق جدة وأجبره على ترك الحجاز، ثم دبر اغتيال قاضي الشرع العثماني في المدينة ثم بعد ذلك ألقى القبض على رؤساء العسكر العثماني في المدينة الذين حاولوا الانتقام لمقتل القاضي وإيداعهم السجن ولم يطلقهم إلا بشفاعة أمير قافلة الحج العثماني، وعندما توفي الشريف زيد في محرم عام 1077هـ / يوليو 1666م كان ابنه الأكبر محمد يحيى مقيمًا في المدينة المنورة، وكان الشريف زيد قد حصل في وقت سابق على موافقة السلطان العثماني على أن يخلفه ابنه هذا في إمارة مكة المكرمة والحجاز ، ويظهر أن أمير مكة المكرمة كان يقيم أكبر أبنائه في المدينة المنورة لتقوية سلطته فيها.
وخلال السبعة عشر عامًا الأخيرة من عهد الشريف زيد هدأت الأوضاع في الحجاز وصلحت الأمور بين أمير مكة المكرمة وبين أمراء قوافل الحج وسنجق جدة وشيخ الحرم المكي سليمان بك الذي تفرغ للأعمال العمرانية في المسجد الحرام والمشاعر . بل لقد بلغ الاتفاق بين أمير مكة المكرمة والحجاز وبين سنجق جدة وشيخ الحرم المكي أن خرج السنجق المعين حديثًا المدعو عماد أفندي الرومي في عام 1076هـ / 1665م بصحبة الشريف زيد ومعهما عساكر محمد علي لمحاربة قبيلة جهينة التي تقع ديارها في نواحي ينبع وشمال غرب المدينة المنورة بسبب مقتل أحد بني عمومة الشريف البعيدين في ديار تلك القبيلة ؛ وهو أمر لا يدعو - على ما يبدو - إلى خروج السنجق وعساكر الدولة إلى تلك الجهات البعيدة.
عندما توفي الشريف زيد بن محسن في بداية عام 1077هـ / يولـيو 1666م أرسل سنجق جدة وشيخ الحرم عماد أفندي خلعة الولاية إلى أصغر أبنائه الشريف سعد بن زيد، متجاهلاً الابن الأكبر محمد يحيى الذي كان أبوه قد حصل له على موافقة السلطان بالولاية من بعده وحمود بن عبد الله وأحمد الحارث اللذين كانا أبرز زعماء الأشراف في مكة المكرمة محدثًا بذلك صراعًا مريرًا بين هؤلاء على السلطة . وأصبحت بلاد ينبع - التي انحاز إليها حمود بن عبد الله أقوى المنافسين للشريف سعد بن زيد - ميدانًا لذلك الصراع، فقد اعترض حمود وأتباعه من الأشراف وغيرهم في رجب 1078هـ / ديسمبر 1667م الجردة العسكرية التي كان يقودها يوسف بك سنجق جدة وشيخ الحرم المكي المعين والمرسلة من قبل والي مصر للسيطرة على الوضع في الحجاز، وكان يصحب هذه الجردة عدد كبير من التجار والعمار والزوار يصل إلى ألف وخمسمئة مسافر، وقد قتل في هذه المواجهة غالب أفراد القافلة ونهبت أموالهم ولم ينج منهم سوى ما يقارب المئة نفس، ومات السنجق بعد المعركة . وقد أحدثت هذه الواقعة المؤلمة اضطرابًا وخوفًا عظيمًا في نواحي ينبع والمدينة المنورة إذ انقطعت السبل وارتفعت الأسعار بسبب ذلك .
لم تقتصر المشكلات التي ثارت في بداية عهد الشريف سعد بن زيد على ينبع بل امتدت إلى المدينة المنورة فقد اشتد النـزاع في منتصف عام 1078هـ أواخر 1667م بين سكان المدينة المنورة ورؤساء العسكر العثماني بها وبين قاضي الشرع وكاتب الصرة (الصدقات) ونواب أمير مكة المكرمة والحجاز في المدينة، فقد اتهم أعيان المدينة ورؤساء عسكرها هؤلاء المسؤولين بإساءة توزيع الأموال والصدقات والغلال المخصصة لسكان المدينة المنورة، وكان يتزعم المحتجين من سكان المدينة رجل من أبناء المجاورين في البلدة يدعى محمد ظافر بن حسن آغا الذي كان قائدًا لأوجاق السباهية العثمانية (فرقة الخيالة) في المدينة، وقد كتب هؤلاء المحتجون شكوى رفعوها إلى الشريف سعد بن زيد وطلبوا محاسبة المسؤولين عن توزيع الأموال والصدقات في المدينة، ولما وافق أمير مكة المكرمة على ذلك تمكن أهل المدينة من استخراج نحو أربعة وعشرين ألف قرش من أولئك المسؤولين .
ولا يظهر أن محاسبة أهل المدينة لأولئك المسؤولين قد أنهت النـزاع بين الطرفين، بل ربما تكون قد أسهمت في تأزم الموقف، فقد ضيق الشريف سعد على أهل المدينة واشتد نوابه في معاملة السكان وتدخل الشريف في الوظائف التي كانت متروكة لشيخ الحرم النبوي وقادة العسكر العثماني وحجب ما كان يرسل إلى المدينة المنورة من الأموال والغلال والصدقات، فاشتد غضب أهل المدينة من هذه السياسة التي تهدف إلى معاقبتهم، فأرسلوا العرائض إلى مصر والعاصمة العثمانية يشكون فيها من سوء معاملة الشريف سعد ونوابه في المدينة المنورة، وسافر محمد ظافر، قائد أوجاق السباهية في المدينة إلى إستانبول لعرض شكاوى أهل المدينة نيابة عنهم على الصدارة العظمى . وقد تخوف المسؤولون العثمانيون في القاهرة وإستانبول من تزايد قوة سلطة الشريف سعد في المدينة المنورة، كما كان الوضع في عهد أبيه الشريف زيد بن محسن.
كان يتولى الصدارة العظمى في الدولة العثمانية في ذلك الوقت فاضل أحمد باشا كوبريــلي 1072 - 1087هـ / 1661 - 1676م الذي كان يحاول هو وأبوه من قبله إعادة التماسك والقوة للدولة وإصلاح أوضاعها الإدارية والمالية والعسكرية والحفاظ على سلطتها في الولايات البعيدة . قرر الصدر الأعظم معالجة المشكلات التي نتجت من وصول الشريف سعد إلى إمارة مكة المكرمة والحجاز، ومن أهمها اضطراب الأمن في مكة المكرمة وما جاورها وإهمال معاقبة الذين أوقعوا المذبحة بعسكر السلطان والتجار والزوار الذين كانوا يرافقونهم في ينبع والمعاملة السيئة والجور الذي ألحقه الشريف سعد بأهل المدينة، فأرسل مع قافلة الحج الرومية قائدًا عسكريًا كبيرًا يدعى حسن باشا في أواخر عام 1079هـ بداية 1669م وفوض إليه أمر (سنجقية) جدة والنظر في أمر مكة المكرمة ومشيخة الحرم المكي . ولما علم الشريف سعد بوصول هذا المسؤول الكبير إلى المدينة - وهو أول قائد عسكري عثماني برتبة باشا يعين سنجقًا لجدة ومشيخة الحرم المكي - أدرك الهدف من إرساله وتخوف جدًا ما يمكن أن يقوم به ضده، فأخذ الحذر منه .
استقبل أعيان المدينة المنورة ورؤساء العسكر العثماني فيها حسن باشا استقبالاً حافلاً خارج البلد، ولما استقر في المدينة أخذوا يشكون إليه ما يلاقونه من الظلم والمعاملة السيئة والشطط والتعدي على مخصصاتهم من قبل الشريف سعد ونوابه وموظفيه في المدينة، فاستدعى حسن باشا أولئك النواب والموظفين وشتمهم وأهانهم وعزرهم ثم أودعهم السجن في القلعة وأمر بحذف اسم أمير مكة المكرمة والحجاز من الخطبة في المسجد النبوي الشريف. وكان لمحمد ظافر، قائد السباهية دور كبير في ذلك، فقد كان هو المحرض على ما قام به الباشا ضد نواب الشريف والموالين له في المدينة، كما قام رجاله بمساعدة الباشا في تنفيذ أوامره في حقهم .
في السابع والعشرين من شهر رجب 1080هـ / ديسمبر 1669م وقع قتال في المدينة المنورة بين العسكر العثماني في المدينة وجماعة من قبيلة حرب قدموا المدينة لزيارة المسجد النبوي في الموسم المعروف بـ (الرجبية) وكان على رأسهم شيخهم المشهور أحمد بن رحمة، ولم يكد هؤلاء الزوار يدخلون المدينة حتى فاجأهم العسكر بالقتال، وقد استمرت المعركة بين الطرفين حتى حلول الظلام من ذلك اليوم إذ أمر الشيخ أحمد بن رحمة أفراد قبيلته بوقف القتال والخروج إلى ذي الحليفة لكي يتمكن من معرفة سبب اندلاع الحرب، وفي صباح اليوم التالي أرسل شيخ الحرم النبوي وقاضي المدينة إلى شيخ حرب وطلبوا حضوره، فلما حضر أخذ هو ورؤساء العسكر وأعيان المدينة يختصمون ويدعي كل على الآخر بأنه هو البادئ بالعدوان، وفي النهاية تم الإصلاح بين الطرفين وأُلبس الشيخ وبعض مرافقيه خلعًا من الجوخ وتم الاتفاق على عدم العودة لما مضى ، ويظهر أن عسكر المدينة وسكانها الذين كانوا يتوجسون خيفة من الشريف سعد ويتوقعون انتقامه منهم بسبب ما قام به حسن باشا ضد نواب الشريف لإنصافهم، قد ظنوا أن جماعة حرب جاؤوا إلى المدينة مهاجمين لها بدافع من أمير مكة المكرمة.
وتدل هذه الحادثة على انقطاع الروابط بين سكان المدينة والقبائل المجاورة لها وانعدام الثقة بين الطرفين الناتج عن أسلوب الحكم العثماني في المنطقة.
بعد نحو عام من تسلم حسن باشا لمهام منصبه سنجقًا لجدة وشيخًا للحرم المكي والنظر في أمور الحرمين نيابة عن السلطان، بدأ الباشا في تنفيذ سياسته الهادفة إلى الحد من سلطات الشريف سعد بن زيد فكف أيدي وزير الشريف وموظفيه في جدة عن التصرف واستبدلهم بغيرهم وضرب بعضهم وأظهر مرسومًا سلطانيًا يقضي بأن لسنجق جدة وحده التصرف بجميع مواردها للإنفاق منها على المسجد الحرام . وقد وصل حسن باشا إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج لعام 1081هـ / إبريل 1670م مصطحبًا عددًا كبيرًا من العسكر، وبينما كان منحدرًا من منى إلى مكة المكرمة أطلق عليه ثلاثة من العرب النار عند جمرة العقبة فأصابوه في فخذه، فعم الاضطراب الحجاج واستعد الشريف وعسكر الباشا للقتال الذي حال دونه تدخل أمراء الحج بين الطرفين . ويذكر العصامي عن سبب هذه الحادثة أن الباشا قطع عن الشريف حقه في نصف موارد جدة، فوثب عليه الشريف في طلب حقه ، أما السنجاري فيرى أن الشريف سعد نفى أن تكون له علاقة بمحاولة اغتيال الباشا، لكنه طلب من أمراء الحج محاسبته ما دام على قيد الحياة عما هو للشريف من مدخول جدة وألح في الطلب وعين وكيلاً عنه في الدعوى لدى القاضي وتقاضى في النهاية جزءًا من المبلغ .
توجه حسن باشا بعد الحج مع قافلة حجاج مصر إلى المدينة المنورة وقد عقد العزم على الانتقام من الشريف سعد. وفي المدينة أشار عليه محمد ظافر قائد أوجاق السباهية وغيره من رؤساء العسكر وأعيان المدينة بعزل الشريف سعد وتولية بديل عنه، فوقع الاختيار على أحمد بن محمد الحارث الذي كان يقيم في ذلك الوقت في قرية الشعرا في عالية نجد، وبعد وصوله إلى المدينة المنورة أظهر حسن باشا أمرًا سلطانيًا يقضي بعزل الشريف سعد وتولية الشريف أحمد الحارث وألبسه خلعة التولية في الحجرة النبوية الشريفة، وأقيمت الخطبة باسمه في المدينة. أخذ حسن باشا يجهز قواته من عسكر المدينة وغيرهم، وأنشأ في قلعة المدينة مصنعًا للقنابل والقذائف وأرسل إلى نائبه في جدة يطلب منه إرسال ما يتوفر لديه من المال والذخيرة والمواد الغذائية .
أما الشريف سعد فقد توجه بعد الحج إلى ينبع وأقام هناك متوقعًا أن يواجهه حسن باشا بالحرب، وكان يرافقه أخوه الشريف أحمد بن زيد الذي كان قد أشركه معه في إمارة مكة المكرمة والحجاز منذ محرم عام 1081هـ / يونيو 1670م، وأخذ الشريفان يجمعان المقاتلين من قبائل المنطقة ومن زعماء عشيرتهما . انتقل الشريفان بعد ذلك بقواتهما إلى مكان يقع على بعد سبعين كيلومترًا إلى الشمال من المدينة المنورة يسمى (ملحة) . ولما علم الشريف سعد بخروج القافلة التي تحمل الأموال والذخيرة والمؤن التي طلبها الباشا من جدة، أرسل أتباعه لاعتراضها والاستيلاء عليها ووزعها على قواته، وفي ملحة علم الشريف سعد بصدور أوامر الدولة العثمانية بعزل حسن باشا من منصبه ومغادرة الحجاز، فتوجه الشريف إلى مكة المكرمة، كما غادر الباشا المدينة المنورة وبصحبته محمد ظافر وعدد من قادة العسكر العثماني في المدينة إلى غزة، لأنهم خافوا على أنفسهم من انتقام أمير مكة المكرمة، إذ توفي الباشا قبل وصوله إلى هناك، وتوجه محمد ظافر وأصحابه إلى مصر ، وسلمت المدينة المنورة من حرب كانت وشيكة بين الطرفين.
قرر الصدر الأعظم أحمد باشا كوبريلي بعد أن تتابعت الشكاوى من الشريف سعد بن زيد عزله وأخاه أحمد عن إمارة مكة المكرمة والحجاز، فأصدر أوامره إلى والي مصر بتجهيز ثلاثة آلاف جندي من مصر وإرسالهم إلى مكة المكرمة، كما أمر صاري حسين باشا والي حلب بتجهيز ألفي عسكري والتوجه بهم مع قافلة الحج الشامية إلى مكة المكرمة وبصحبته الشيخ محمد بن سليمان المغربي، أحد العلماء المجاورين بمكة المكرمة الذي وصل إلى العاصمة العثمانية للشكوى من أمير مكة المكرمة، وأسند الصدر الأعظم إلى حسين باشا النظر في أمر الحرمين وطلب منه ألا يبرم أمرًا دون استشارة الشيخ محمد بن سليمان المغربي الذي أوكل إليه الإشراف العام على شؤون الحرمين الشريفين وتولية من يرى فيه الصلاح إمارة مكة المكرمة والحجاز . وبعد وصول عساكر محمد علي وحسين باشا والعساكر الشامية والشيخ المغربي إلى مكة المكرمة أدرك الشريف سعد وأخوه عدم قدرتهما على مواجهة القوات العسكرية الكبيرة فاختارا الخروج من مكة المكرمة
وبعد مغادرة الشريفين مكة المكرمة اجتمع حسين باشا وأمين الصرة وكاتب الديوان ومحمد جاوش قائد العسكر المصري في منـزل الشيخ محمد بن سليمان المغربي في منى، ودعوا الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أبي نمي، وأظهر الباشا مرسومًا سلطانيًا يقضي بتولية الشريف بركات إمارة مكة المكرمة والحجاز وألبسه خلعة التولية . وقد أشار الصدر الأعظم أحمد باشا كوبريلي ووالي مصر في خطاباتهما إلى زعماء مكة المكرمة أن سبب عزل الشريف سعد بن زيد عن الإمارة هو:"ما ظهر من السيد سعد من الأمر الشنيع ما يشيب عنده الطفل الرضيع، وما كفاه ذلك حتى شدد الخناق على أهل المدينة البهية، وأذاقهم كأس المنون روية. فلما بلغ هذا الحال السمع الكريم السلطاني، أمر بعزل السيد سعد عن شرافة مكة وتفويضها إلى الشريف بركات" . وكان المدبر لكل هذه الأمور والمرتب لمراحل تنفيذها منذ البداية هو الشيخ محمد بن سليمان المغربي، فقد جمعت بين الشيخ المغربي وبين الصدر الأعظم أحمد كوبريلي بعد أن تقابل الرجلان في إستانبول الرغبة في إصلاح أوضاع الدولة العثمانية والقضاء على المفاسد والانحرافات السياسية والإدارية والدينية التي كانت تنخر في جسدها، ولذلك أوكل الصدر الأعظم مهمة النظر في أمور الحرمين الشريفين وإصلاح الأوضاع فيهما إلى الشيخ المغربي.
وبتولية الشريف بركات إمارة مكة المكرمة والحجاز، لم ينجح الشيخ المغربي في عزل الشريف سعد بن زيد وأخيه فحسب، بل نجح في نقل تلك الإمارة من فرع ذوي زيد إلى فرع ذوي بركات من أشراف مكة المكرمة، وبذلك وضع البداية لتنافس طويل بين الفرعين على الإمارة، وقد بدأ الشيخ المغربي خلال السنوات التالية في إصلاح وتغيير أوضاع بعض الأوقاف والمدارس والصدقات وغيرها في الحرمين الشريفين، ما أثار ضده نقمة المستفيدين من تلك الأوضاع
لقد أسهمت المشورة التي كان يقدمها الشيخ محمد بن سليمان المغربي للشريف بركات وتنامي القوات العسكرية العثمانية في الحجاز وتدخل قادة تلك القوات ومن بينهم: محمد جاوش، وأحمد باشا في صراعات الأشراف في عهد الشريف بركات وابنه الشريف سعيد في تزايد قوة النفوذ العثماني في الحجاز وإضعاف سلطة أمراء مكة المكرمة في الإقليم؛ ففي عام 1084هـ / 1673م والعام الذي يليه شن الشريف بركات الحروب ضد قبائل منطقة المدينة المنورة لتأديبهم بمساعدة القوات العثمانية، وربما كان ذلك بإيعاز من الشيخ المغربي والقادة العثمانيين، فقد خرج الشريف بركات في منتصف ذلك العام ومعه الأشراف والعبيد والعساكر لقتال قبيلة حرب في وادي الصفراء بزعامة شيخهم أحمد بن رحمة، وقد ألحق بهم الشريف وقواته الهزيمة واضطر الشيخ أحمد بن رحمة إلى اللجوء إلى شيخ الحرم ا?