إنّ تاليَ القرآن ممتدح عند الله تعالى، وقد أمر الله -عز وجل- بتلاوته؛ فقال مخاطبا نبيّه صلى الله عليه وسلم: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وقال عليه السلام: (لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَهو يَتْلُوهُ آناءَ اللَّيْلِ، وآناءَ النَّهارِ، فَسَمِعَهُ جارٌ له، فقالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ ما يَعْمَلُ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُهْلِكُهُ في الحَقِّ، فقالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ ما يَعْمَلُ)، وقُصِدت الغِبطة في الحديث؛ أي تمنّي الخير الذي ناله الغير مع عدم تمنّي زواله منه، فتلاوته نعمة ورفعة في درجات الدنيا والآخرة، وهجره نقمة، ويعرّف القرآن الكريم اصطلاحاً بأنه كلام الله الذي أنزله على آخر الأنبياء محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام-، المتعبّد بتلاوته، المنقول إلينا عن الرسول بالتواتر، المكتوب بالمصاحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.
بيّن العلماء المقصود بهجر القرآن الكريم في اللغة والاصطلاح، وتفصيل ذلك فيما يأتي:
وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، وفُسّر الهجر هنا بعدّة أقوالٍ منها:
ولم يحدّد العلماء عدداً معيناً للأيام التي تعدّ عدم القراءة فيها للقرآن هجراً، لكن هناك بعض الروايات لأهل العلم في مدّة ختم القرآن الكريم، فقيل إنه على المسلم قراءة القرآن الكريم كاملاً في السنة الواحدة مرّتين، فيكون بذلك قد أدّى حقّه، وهو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وقيل يُكره تأخير ختم القرآن أكثر من أربعين يوماً بلا عذر، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد توعّد الله -سبحانه وتعالى- من أعرض عن القرآن الكريم بالوعيد الشديد يوم القيامة، قال الله سبحانه وتعالى: (مَن أَعرَضَ عَنهُ فَإِنَّهُ يَحمِلُ يَومَ القِيامَةِ وِزرًا خالِدينَ فيهِ وَساءَ لَهُم يَومَ القِيامَةِ حِملًا)، وأما في حياته الدنيا فتكون مليئةً بالهموم والضيق وعدم الطمأنينة والراحة، قال الله تعالى: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى).
هناك أنواعٌ ومظاهر عديدة لهجر القرآن الكريم بعضها أشدُّ من بعض، منها:
يُقصد بتدبّر القرآن أي التفكر فيه وفهم معانيه والوقوف على دلالاته، وله أهمية عظيمة وخيرٌ كبير في حياة قارئ القرآن؛ فهو استجابة لأمر الله تعالى، وسببٌ لصلاح العبد واستقامته من خلال تطبيق ما فيه، ويعدّ هجر تدبّر القرآن الكريم من أنواع هجر القرآن الكريم، وله أسباب كثيرة منها:
إن من أسباب هجر تلاوة وقراءة القرآن الكريم ما يأتي:
إنَّ سبب هجر العمل بالقرآن الكريم هو عدم الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، فلا بد من المؤمن أن يطبّق ما جاء فيه من الفرائض ويتعلّمها حتى يتقنها ويعمل بها، وأن يبتعد كل البعد عن المحرمات التي نهانا الله -سبحانه وتعالى- عنها في كتابه الكريم، فينال رضى الله -تعالى- والسعادة في دنياه وآخرته.
إنَّ هجر القرآن الكريم يُورث في قلب هاجره القسوة، لأن القرآن يرقّق قلب قارئه، فبذكر الله -عز وجل- يأنس القلب ويُشرح الصدر وتطمئن النفوس، قال تعالى: (الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّـهِ أَلا بِذِكرِ اللَّـهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ)، بالإضافة إلى أن هجر القرآن الكريم يُفقد صاحبه حفظ الله -تعالى- وحمايته له؛ حيث إن ذكر الله -تعالى- هو خيرُ حافظٍ للمؤمن، وهاجر القرآن قد ضيّع الأجر والفضل العظيم من الله تعالى، وفوّت على نفسه شفاعة القرآن الكريم له يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ)، هذا بالإضافة إلى كثرة انتشار البدع بسبب هجر القرآن والإعراض عنه، وهجر كتاب الله يدفع إلى هجر السنّة، وبالتالي يكثر الجهل ويقلّ العلم، ويكثر العمل وفقاً للأهواء والشهوات؛ فتزيد البدع والضلالات.
إنّ من طرق العلاج الرئيسية لهجر القرآن الحرص على وجود وردٍ يلتزم به المسلم في يومه ويحافظ عليه، ويؤثر القرآن الكريم على انشغالات الدنيا فيقرأه ويتدّبره، ومن أفضل الأوقات لذلك في الصباح الباكر وذلك لوجود البركة في هذا الوقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُورِكَ لأُمَّتِي في بُكورِها)، بالإضافة إلى الحرص على قراءة كلام الله -تعالى- كأنّه كلامٌ يتنزّل على القارئ له حتى يستشعر برسائله فيؤمن بها ومن ثم يعمل بها ويطبّقها، ويبتعد عن الاستماع عن كل ما يُبعده عن فهم القرآن الكريم ومقاصده، ولا بد من احترام كلام الله وتعظيمه وعدم مقاطعة وقت القراءة بأمورٍ أخرى.
ومن الأمور التي لابد من مراعاتها أن يطبّق المسلم آداب تلاوة القرآن الكريم، ومنها حُسن الاستماع إليه مع تحقّق الإنصات له والتركيز التامّ بما يُقرأ من آياته، وهناك بعض أوقات الفراغ التي يستطيع المسلم استثمارها لتلاوة القرآن الكريم؛ مثل وقت التنقّل بالسيارة، أو في الطريق إلى العمل، أو عند الاضطجاع قبل النوم، ومن لا يتقن القراءة جيّدا ويحاول جاهداً أن يحسّن تلاوة القرآن فإنّ أجره مضاعف؛ حيث له أجر المشقّة وأجر التلاوة، ومن الأمور المعينة على عدم الهجر تطبيق ما يرد في القرآن من الأحكام واجتناب النواهي، بالإضافة إلى الحرص على تحسين القراءة تجويداً وترتيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعلَّموا القرآنَ، واقرءُوه، فإنَّ مثلَ القرآنِ لمن تعلَّمه فقرأه وقام به كمثلِ جرابٍ مَحشُوٍّ مسكًا، يفوحُ ريحُه في كلِّ مكانٍ، ومثلُ من تعلَّمَه فيرقدُ وهو في جوفِه كمثلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسكٍ). وجميلٌ أن يحرص المؤمن على ختم القرآن الكريم، فإذا أنهى خِتمةً بدأ بختمةٍ أخرى، وخير قدوة لنا السلف الصالح؛ فمنهم من كان يختم القرآن الكريم في كل شهرين، ومنهم من كان يتلوه كاملاً كل شهر، وآخرون كل عشر ليال ختمة وآخرون أقل من ذلك، مع الحرص على تدبّر ما جاء به من المعاني العظات.
موسوعة موضوع